مذكرات كتبتها وأنا طالبة في نهاية الثانوي سنة 1992
--------------------------------------------------------------------------------
السلام عليكن ورحمة الله وبركاته
وأنا أبحث بين وريقات تركتها في بيت أهلي وجدت أمس هذه المذكرات اليومية وهي تعود الى شهر يونيو من سنة 1992
كتبتها وأنا أستعد حينها لامتحان التخرج من الثانوية أحببت أن أشارككم بها رغم بساطة الأسلوب الذي كتبت به حينها
لأنها ترمز وتمثل بالنسبة الي أشياء وأحاسيس كثيرة
دون إطالة
عنوان المذكرات:
المـــرض والــروتـــيــن
أتمت الساعة عد دقاتها الست ، فتسللت من الفراش أمشي على أصابع قدمي، فوالدتي لا تزال نائمة والسادسة صباحا ليست موعد استيقاظها.
أمسكت قابض الباب بكف وبالكف الأخرى أمسكت بالباب كله وفتحته بحذر شديد كي لا يصدر أي صوت كما هي العادة.
فتحت الباب ولأول مرة أنجح في منع صدور أي صوت منه، خطوت خطوتين أختلس النظر الى غرفة أمي المجاورة ففوجئت بها تنظر إلي بابتسامة جميلة، فقلت وأنا غاضبة وكنت أحسب أنني السبب في إيقاظها:
- سامحيني أمي حاولت....
فقاطعتني وقالت:
-لا عليك ، أنت لم توقظيني ، لأنني أصلا لم أنم الليل كله
- ولماذا ؟ هل .. هل .. عاودتك الأزمة المرضية؟؟؟
فتنهدت أمي وأحسست لذلك بحزن وغم شديدين وهي تومئ برأسها أن نعم
- ولماذا لم توقظيني ؟ على الأقل أكون بجانبك
- وماذا يفيدني أن أقلق راحتك ، وأنت اليوم مقبلة على آخر امتحان لك في هذه الدورة
- ولكن على الأقل...
- لا أقل ولا أكثر، استعدي للامتحان واطمئني ، ولا تقلقي علي، أنا بخير الآن
لقد كانت تجهد نفسها لتخرج من حلقها هذه الكلمات لتطمئنني على حالها ، ولكن لا ، أمي أعرفها ، تضحي بكل شيء من أجل أبنائها وزوجها، لا يهمني الامتحان، سأبقى إلى جانبها أرعى شؤونها وألبي حاجياتها فأبي سيذهب الى عمله وإخواني وأخواتي كل الى مدرسته، فاتخذت قراري وقلت :
-لن أذهب الى الامتحان ، وليحدث بعدها ما يحدث، سأظل بالبيت ، سأبقى الى جانبك يا أمي
- لا ، لا يا (نورس) لن يفيدك القعود أي شيء، قلت اذهبي، سيمر الوقت سريعا، إن كنت تريدين راحتي فعلا، اذهبي الى ثانويتك والى امتحانك
إن أمي كما هي منذ وعيت، لا تهتم بحالها ولا تكترث لها ، تفكر بزوجها وأولادها قبل أن تفكر بنفسها
لم أعاند أمي أكثر، حملت حقيبتي واتجهت الى ثانويتي، مشيت على الأقدام بدل الحافلة كنت أريد أن أبقى بمفردي أفكر في حال والدتي المزمن، متى ينحل عقد المرض متى؟؟ أريد أن أريحها ولكن ليس الأمر بيدي
والدي المسكين أنفق من جيبه ومن جيوب أصدقائه من أجل والدتي ورغم ذلك لا تزال ولا نزال نعاني
هي تعاني أكثر، تعاني المرض تعاني العجز ، تعاني اعتقادها أنها السبب في تعاسة بيتها ، تعاني من كل شيء. والآن لا أجد حتى كيف أخفف عنها، لعن الله الامتحان والأساتذة... لعن الله الزمن والمكان... ماذا لو كنت في عالم آخر أعيش فيه مع والدتي ولا أحمل هم أي شيء ولا متى تشرق ولا متى تغرب؟ أحمل هما واحدا العيش بالقرب من أمي وأهتم بها وبمرضها،،،ولكن ، وأنا؟؟؟؟؟أؤقيد نفسي بقيود مزمنة كقيود المرض؟ أأكبت مواهبي وأقتلها من أجل أمي؟؟؟؟ أأنسى مستقبلي؟؟ أأقتل إبداعاتي ؟؟؟لا أدري لقد احترت.
والامتحان ؟ لماذا قدر علي اليوم بالذات؟ لعن الله الفلسفة وامتحاناتها...لم تجد غير اليوم لنمتحن فيه ، آخر يوم دراسي ويوم مرض والدتي؟؟؟؟
وظللت على هذا المنوال أطرح السؤال وأجيب عليه طوال الطريق إلى أن وصلت الى باب الثانوية، فأخذت أسير في اتجاه قاعة الامتحان، امتحان في مادة الفلسفة، والموضوع الفيزياء والبيولوجيا،،، ندرس علم البيو: علم الحياة، وأمي في المنزل تصارع الموت من أجل الحياة، ياللمسخرة إنها مهزلة ،، ماذا أفعل هنا ؟ فلأعد ، ولكن بعد ماذا ؟ بعد أن وصلت ؟ والامتحان؟؟؟ دائما أسأل نفسي والامتحان؟؟؟ إنه السبب في بعدي عن أمي ساعة احتياجها الي
إنني ألعن الفلسفة وامتحاناتها،، ولكن لماذا؟ ماشأن الفلاسفة بما أنا فيه الآن، المقرر هو السبب لا بل الجو الدراسي كله هو السبب...كيف يا ترى يستطيع المرء في مثل هذه الظروف أن يحكم؟ لا أدري ولربما أدري ولست أدري، أو أنني لا أدري وأوهم نفسي أنني أدري....
لايهمني أن أدري أو لاأدري ما يهمني والدتي أمي أمي فقط
كنت أستعد لامتحان الفلسفة فوجدتني في امتحان أصعب، امتحان تكون نتيجته الحياة أو الموت، وليس النجاح أو الرسوب.. هذا هو الامتحان
فأجهشت بالبكاء ، ولأول مرة ومنذ زمن بعيد أضعف وأستسلم ، زميلاتي كن الى جانبي يواسينني ولم أحس بما يقلنه أو يفعلنه حتى سمعت جرس بدء الامتحان ، فنهضت مرغمة ومسحت دموعي ولكنها عادت وتساقطت كحبات مطر غزيرة على حقول يابسة ،فخدودي لم تعانق العبرات منذ زمن طويل..
وأجريت الامتحان وعدت بعده الى المنزل مسرعة كي أجد والدتي مغمى عليها ... وأحتار بماذا أبدأ ؟؟؟ الهاتف أم والدي أم الطبيب أم نجدة أمي؟؟؟؟؟؟
حيرتي هذه جعلتني أعجز حتى عن التفكير أو الحركة، إلا أنني استطعت بعد تلاوة بعض الآيات أن أهدأ وأنجد أمي من براثن الموت واستدعيت بعدها الطبيب
وأمضيت معها وبجانبها ثلاث ساعات الى أن أفاقت من غيبوبتها وكانت الساعة تشير الى الثالثة زوالا.
ولما حل الظلام أحسست بنعاس يثقل أجفاني وبوالدتي تسألني أن أذهب الى فراشي لأنام.
وفي الصباح وحين أتمت الساعة عد دقاتها الست تسللت من الفراش أمشي على أصابع قدمي فوالدتي متعبة والوقت مبكر ولا داعي لإزعاجها.
أمسكت قابض الباب بكف ، وبالكف الأخرى أمسكت الباب لأفتحه بحذر شديد، أخرج من الغرفة وأسمع أمي تناديني : (نورس) ( نورس).....
*********
للإشارة: كانت نتائج الثانوية مذهلة كنت الأولى على صعيد الجهة وكانت نقطة الفلسفة أعلى نقطة أيضا والله على ما أقول شهيد
وللأسف بعد ثمانية أشهر فقط من هذا التاريخ فارقتنا الأم الغالية
رحمها الله وأوسعها فسيح جناته
محبتكن في الله